2007/09/03
بقلم الأستاذ مالك بدري
كتب د. مالك بدري مقدّمة لكتاب د.عبدالله الصبيح ''تمهيد في التأصيل‘‘ فجاءت مقدمته درة من درر التأصيل كما وصفها الصبيح، وقد ذكر فيها أهم الخصائص التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدرون لتأصيل العلوم الإنسانية، وأهمية التأصيل، والرد على من رفضه. وفيما يلي عرض لأهم أفكار هذا المقال دون التقيد بترتيب ذكرها.
أهمية التأصيل
تأتي أهمية تأصيل ''علم النفس‘‘ مما يلي:
1) أنه يمثل النواة التي تزود العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى بركائزها الأساسية عن طبيعة الإنسان ودوافعه بصورة علمانية نفعية، لا ارتباط لها بدين الله.
2) الخاصية ''الهلامية‘‘ لعلم النفس، لذلك فإن كثيراً من النفسانيين الغربيين يطلقون اصطلاح ''السلطة‘‘ Salad على تخصصهم. فعلم النفس يجمع بين العلم التجريبي المختبري، والفنون التطبيقية والفلسفة، كل هذه الميادين - وإن اختلفت مناهجها ومقاصدها- تقبع تحت مظلة علمانية، أثرها واضح في الجوانب الفلسفية مستتر في الفروع التجريبية. هذه الخاصية جعلتنا لانجد ترتيبا واحداً للموضوعات بين مؤلفي كتب علم النفس العام، ولا أسلوباً متشابهاً بين مدرسي هذه المواد في تدريسهم. وهذه الخاصية تجعل من عملية الأسلمة أمراً شاقاً على من يصعب عليه التفريق بين هذه الجوانب المعقدة. فعلم النفس في ذلك كثير الشبه بالفلسفة اليونانية في أيام أبي حامد الغزالي.
فهذه الخصوصية لعلم النفس الحديث تشكِّل خطراً فكرياً وعقائدياً عظيماً على الطلاب والمسلمين بشكل عام.
أصناف الرافضين للتأصيل والرد عليهم:
الصنف الأول:
هؤلاء يقولون: ((علم النفس يأتينا من الغربيين الذين فجروا الذرة ووطئوا أرض القمر واستنسخوا الخراف! فكيف نرفض بعد ذلك علماً للنفس جاؤوا به بطريقتهم العلمية التي ''قهرت‘‘ قوى الطبيعة؟!))
• وبالرغم من أن هذا المفهوم يقوم على ضعف الإيمان كما يقوم على تصور خاطئ مؤداه أن من تفوق في مجال فيجب أن يكون متفوقاً في كل الميادين إلا أن عقدة ''الخواجة‘‘ وإحساس المسلمين بالضعف والهوان تجاه الغرب تجعل من هذا التصور خطراً ماحقاً. وهذه آفة قديمة تكلم عنها الغزالي في (المنقذ من الظلال) فقال: (إن من ينظر في علوم الرياضيات والمنطق والفلك في الفلسفة اليونانية يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها فيُحسِن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح ووثاقة البرهان كهذا العلم ، ثم يكون قد سمع عن كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ماتداولته الألسنة فيكفر بالتقليد المحض ويقول لو كان حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم.. وكم رأيت من ضل عن الحق بهذا القدر، ولامستند له سواه، فإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة.. وكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الإلـهيات تخميني .. تحمله غلبة الهوى وشهوة البطالة وحب التكايس على أن يصر على تحسين الظن بهم) ويزداد الأمر سوءاً عندما يدرس طلابنا علم النفس على أيدي أساتذة كسالى كالذي قال: إنه لن يدرِّس علم النفس من منظور إسلامي حتى ينال هذا التأصيل الإسلامي اعترافاً عالمياً!. فكأنه ينتظر من الأمريكيين أن يصنِّفوا علم نفس إسلامي ويطبعوه في كتب أنيقة يترجمها بعد ذلك لطلابه..!!.
لعله من الضروري أن نذكّر هؤلاء أن علماء النفس الغربيين قد اعترفوا الآن بأن تأصيل علم النفس بالنسبة لدول العالم الثالث ضرورة لابد منها، مما يؤكد اعترافهم الضمني بالأسلمة في جامعات العالم الإسلامي. فقد كتب الباحثان الأمريكيان Moghaddad و Harre بحثاً بعنوان (هل هو علم بحق؟!) أكدا فيه أن تدريس علم النفس الغربي في دول العالم الثالث دون تأصيل يعتبر أمراً لا أخلاقياً، كما ذكرا أن أمريكا الآن هي (القوة العظمى لعلم النفس) وأنها تصدِّر للعالم الثالث نظريات وعلوم نفسية مشكوك في صلاحيتها حتى في أمريكا نفسها! وختما بحثهما بلفت الأنظار إلى أن هذا العمل لايأتي إلا بالتبعية والانهزام أمام الفكر الغربي، كما يعمق من التقاليد التي أرساها الاستعمار الأوربي لتلك البلدان.
إضافة لذلك نقرأ للعالم البريطاني المشهور آيزنك Eysench وهو يشكو مُرّ الشكوى من أن علم النفس الأمريكي الذي سيطر على أوربا وبريطانيا وقد بُني على دراسات أجريت على طلاب الجامعات الأمريكية، وأنه يجب تأصيله ليناسب البيئات الأوربية! .. فإذا كانت أوربا تدعو للتأصيل مع تشابه حضارتها بالحضارة الأمريكية، فكيف بالمسلمين؟! ألا توافقني بعد ذلك أن مَن يرفض التأصيل الإسلامي في بلادنا بحجة تمسكه بحياد علمه النفسي ماهو في الحقيقة إلا داعية وسمسار للفكر الاستعماري العلماني الغربي؟ من حيث يدري أو لايدري.
الصنف الآخر:
هم الكثير من أنصاف المتخصصين وممن لم يتلقوا أية دراسات نفسية، تقرأ في كتبهم هجوماً انفعالياً شاملاً كاسحاً على علم النفس بأكمله. كما يشمل الهجوم أحيانا بعض المتخصصين في هذا العلم من المسلمين.
إن ضرر هؤلاء كبير على من له دراية بالناحية العلمية التجريبية في علم النفس فربما يرى في نقدهم الشامل إنكاراً لمسائل أثبتها العلم التجريبي البحت فيسيء الظن بفكرهم ، وربما وصل به الأمر إلى الشك في منطلقاتهم الدينية، وفي هؤلاء يقول الإمام الغزالي: (.. الآفة الثانية نشأت من صديق للإسلام جاهلٍ ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل منسوب إليهم (يعني الفلاسفة) فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه مخالف للشرع ، فلما قرع ذلك سَمْع مَن عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع ، فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضا.
الصفات الواجب توفرها في الباحثين المساهمين في التأصيل:
الخاصية الأولى: إيمان الباحث العميق بدينه وبصدق توجهه.
فهو مسلم أولاً ثم متخصص في علم النفس أو غيره من العلوم الإنسانية، ومن ثم كان لزاماً عليه أن يطوِّع ما درسه من علم غربي لخدمة الإسلام والمسلمين، لا أن يطوّع الإسلام ليتمشى مع ما درسه في أوربا وأمريكا.
الخاصية الثانية: التخصص الدقيق في العلوم الاجتماعية الغربية
فنحن بحاجة إلى علماء مؤصِّلين تبحروا في دراسة العلوم الاجتماعية عامة وعلم النفس خاصة ، وخاضوا لجة بحره حتى كشفوا عن زيفه من نافعه، واستخرجوا لؤلؤه من ظلمات العلمانية.
لذا كان لزاماً على من يتصدى للتأصيل أن يدرس علم النفس على أيدي الغربيين ليطلع على أحدث ما توصلوا إليه قبل مجاهدة أفكارهم. وإن المؤصِّل الذي لايتقن لغة الغرب وإنما يعتمد على ماتمت ترجمته إلى العربية كثيراً مايحصر أبحاثه على نظريات وأفكار تخطاها الزمن!. قال صاحب الإحياء ''الغزالي‘‘: (علمتُ يقيناً أنه لايقف على فساد نوع من العلوم مَن لايقف على منتهى ذلك العلم..). فهو لم يكتب في نقد الفلاسفة حتى أتقن جميع علومهم وسطرها في كتابه ''مقاصد الفلاسفة‘‘ ثم كرّ عليهم بسيف الإسلام في ''تهافت الفلاسفة‘‘ فهز أركانهم وهدم بنيانهم.
الخاصية الثالثة: دراسة المؤصِّل للعلوم الإسلامية
للقرآن الكريم وتفسيره، وللحديث والسيرة، وللفقه، ولتاريخ حياة الصحابه ومن تبعهم من علماء الأمة. فإن لم تكن له معرفة بذلك كان كالمقعَد الذي يقود الأعمى!.
الخاصية الرابعة: ألا تكون دراسته للعلوم الإسلامية منعزلة عن واقع الأمة ومشاكلها المعقدة
والإسلام شامل لجميع النواحي الروحية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية وغيرها من أنشطة الفرد والمجتمع، ولايستطيع الباحث النفسي تأصيل ميدانه مالم يكن ملماً بهذا البعد المهم.
الخاصية الخامسة: قدرته على التفكير الخلاّق والربط الابتكاري والتفريق الدقيق بين المفاهيم المعقدة
وهذه الصفة نادرة الوجود بين المؤصِّلين من علمائنا، فقل أن نجد أمثال الدكتور الصبيح ، والأستاذ جعفر شيخ إدريس السوداني وآشيكين ألبارسلان التركي ونقيب العطاس الماليزي.. وهذه الخاصية يدخل في تكوينها الجانب الوراثي، وتضعفها أساليب التدريس التقليدية التلقينية السائدة في مدارسنا وجامعاتنا، وقد تزداد هذه القدرة مع الخبرة الطويلة والصبر على دراسة العلوم النفسية، وخاصة فلسفة العلوم الاجتماعية، إضافة إلى العكوف على دراسة كتب التراث الإسلامي.
فإذا وضع الباحث المؤصِّل أولى خطواته على هذا الطريق فعليه بالعزم وتقوية ثقته بنفسه وتخلصه من الهزيمة النفسية وكسره لقيد الانقياد للفكر الغربي، فكم مِن عالم ومنظر غربي معتد بنفسه قد أتانا بفكر ساذج عكفنا عليه كالببغاوات ندرسه وندرِّسه لطلابنا! حتى إذا مرت السنون اتضح لنا سخفُ ماعكفنا عليه!!.. ولعل أبلغ الأمثلة على ذلك نظريات فرويد في التطور الجنسي للأطفال التي أثبتت الباحثة Thorton أنه عندما وضعها كان مدمناً على الكوكايين!!.. أي أننا كنا وربما لازلنا ندرّس طلابنا تخاريف يهودي ''مسطول‘‘ على أنها علم ثابت!!.